كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



جعلت جزائي غلظة وفظاظة ** كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ** فعلت كما الجار المجاور يفعل

تراه معدًا للخلاف كأنه ** برد على أهل الصواب موكل

قال: فحينئذٍ أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بتلابيب ابنه وقال: «أنت ومالك لأبيك» والأم مقدمة في البر على الأب فقد روى الشيخان يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك»
ولا يختص البر بالحياة بل يكون بعد الموت أيضًا.
فقد روى ابن ماجه «يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال: «فاعمل به».
وأخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارًا».
وأخرج عن الأوزاعي قال: بلغني أن من عق والديه في حياتهما ثم قضى دينًا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستسب لهما كتب بارًا ومن بر والديه في حياتهما ثم لم يقض دينًا إن كان عليهما ولم يستغفر لهما واستسب لهما كتب عاقًا وأخرج هو أيضًا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برًا».
وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلت له: أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال: إن أبا هذا كان ودًا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه».
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله تعالى عنه قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت لا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أني صل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده» وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك.
وقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث، وصح عد العقوق من أكبر الكبائر وكونه منها هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام الأكثرين بل صريحه أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الوالدان كافرين وإن يكونا مسلمين، والتقييد بالمسلمين في الحديث الحسن أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: تسع أعظمهن الإشراك وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين، إما لأن عقوقهما أقبح والكلام هناك في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكرًا للغالب كما في نظائر أخر.
وللحليمي ههنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوههما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة.
وبينهم في حد العقوق خلاف ففي فتاوى البلقيني مسألة قد ابتلى الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل المقصود إذ الناس تحملهم أغراضهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفًا فلابد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلًا لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو حبسه فهل يكون ذلك عقوقًا أولًا؟ أجاب هذا الموضع قال فيه بعض الأكابر: إنه يعسر ضبطه وقد فتح الله تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنًا فأقول: العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذيه بما لو فعله مع غيره كان محرمًا من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إليه إلى الكبائر أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل منه الخوف على الولد من فوت نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب فيه أو فيه وقيعة في العرض لها وقع.
وبيان هذا الضابط أن قولنا: أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا فمثاله لو شتم غير أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة، وخرج بقولنا: أن يؤذي ما لو أخذ فلسًا أو شيئًا يسيرًا من مال أحد والديه لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالًا كثيرًا بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك هنا لكن الضابط فيما يكون حرامًا صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين، وخرج بقولنا: ما لو فعله مع غير أحد الوالدين كان محرمًا نحو ما إذا طالب بدين فإن هذا لا يكون عقوقًا لأنه إذا فعله مع غير الوالدين لا يكون محرمًا فافهم ذلك فإنه من النفائس، وأما الحبس فإن فرعناه على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه المصحح عند آخرين فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيب إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقًا إذا كان معتقدًا الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لإعسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقًا لأنه لو فعله مع غير والده حيث لا يجوز كان حرامًا، وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء، وقد شكا بعض ولد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينهه عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا يقر على باطل، وأما إذا نهر أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير الوالدين وكان محرمًا كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرمًا، وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر؛ وقولنا أو أن يخالف أمره ونهيه فيما يدخل منه الخوف إلخ أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد أنه عليه الصلاة والسلام قال له: أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد، وفي رواية ارجع إليهما ففيهما المجاهدة، وفي أخرى جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: ارجع فاضحكهما كما أبكيتهما، وفي إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه.
وروى أبو سعيد الخدري أن رجلًا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي قال: أذنا لك قال: لا قال: فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما».
ورواه أبو داود وفي إسناده من اختلف في توثيقه، وقولنا: ما لم يتهم الوالد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافرًا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه، وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرًا أو عبدًا، وقولنا: أو أن يخالفه في سفر إلخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب البحر يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه أنه لا يجب الاستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدًا، وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافًا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب وإرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئًا من ذلك احتاج إلى الاستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع، وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذل في الأنثى أولى، وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إشارة للولد فلا تكون عقوقًا وعدم المخالفة أولى. اهـ كلام البلقيني وذكر بعض المحققين: أن العقوق فعل ما يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاءً ليس بالهين عرفا.
ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان الوالد مثلًا في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقًا لا يفسق ولده بمخالفته حينئذٍ لعذره وعليه فلو كان متزوجًا بمن يحبهاف أمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل لأمره لا إثم عليه، نعم الأفضل طلاقها امتثالًا لأمر والده، فقد روى ابن حبان في صحيحيه أن رجلًا أتى أبا الدرداء فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني امرأة وإنه الآن يأمرني بفراقها قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة» فحافظ على ذلك إن شئت أو دع.
وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فآتى عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلقها، وكذا سائر أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها متساهلًا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء بمخالفتها ثم قال: هذا هو الذي يتجه في تقرير الحد.
وتعقب ما نقل عن البقيني بأن تخصيصه العقوق بفعل المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدار على ما ذكر من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذيًا ليس بالهين عرفًا كان كبيرة وإن لم يكن محرمًا لو فعله مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم إليه ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ إيذاءً عظيمًا فتأمل.
ثم إن السبب في تعظيم أمر الوالدين أنهما السبب الظاهري في إيجاده وتعيشه ولا يكاد تكون نعمة أحد من الخلق على الولد كنعمة الوالدين عليه، لا يقال عليه: إن الوالدين إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام لهما عليه، وقد حكى أن واحدًا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة، وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد: ما نكتب على قبرك فقال: اكتبوا عليه:
هذا جناه أبي علي ** وما جنيت على أحد

وقال في ترك التزوج وعدم الولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي ** سبقت وصدت عن نعيم العاجل

ولو أنهم ولدوا لنالوا شدة ** ترمى بهم في موبقات الآجل

وقال ابن رشيق:
قبح الله لذة لشقانا ** نالها الأمهات والآباء

نحن لولا الوجود لم نألم الفق ** د فإيجادنا علينا بلاء

وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد لأنا نقول: هب أنه في أول الأمر كان المطلوب لذة الواقع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، وقد يقال: لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأنكاد دافعًا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعًا لحق الله تعالى لأنه سبحانه الفاعل الحقيقي، وأيضًا يعارض ذلك التعريض التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم، ولعمري أن إنكار حقهما إنكار لأجلى الأمور ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
{رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا في نُفُوسِكُمْ} من قصد البر إليهما وانعقاد ما يجب من التوقير لهما، وهو على ما قيل تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالًا، وفي الكشف أنه كالتعليل لما أكد عليهم من الإحسان إلى الوالدين بأن الله تعالى أعلم بما في ضمائرهم من ذلك فمجازيهم على حسبه، والظاهر أنه وعد لمن أضمر البر ووعيد لغيره لكن غلب ذلك الجانب لأن الكلام بالأصالة فيه {إِن تَكُونُواْ صالحين} قاصدين الصلاح والبر دون العقوق والفساد {فَإِنَّهُ} تعالى شأنه {كَانَ لِلاْوَّابِينَ} أي الراجعين إليه تعالى التائبين عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو منه البشر {غَفُورًا} لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية، وهذا كما في الكشف تيسير بعد التأكيد والتعسير مع تضييق وتحذير وذلك أنه شرط في البادرة التي تقع على الندرة قصد الصلاح وعبر عنه بنفس الصلاح ولم يصرخ بصدورها بل رمز إليه بقوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلاْوَّابِينَ غَفُورًا} لدلالة المغفرة على الذنب والأواب أيضًا فإن التوبة عن ذنب يكون بشرط قصد الصلاح وأن يتوب عنه مع ذلك التوبة البالغة، وهو استئناف ثان يقتضيه مقام التأكيد والتشديد كأنه قيل: كيف نقوم بحقهما وقد يندر بوادر؟ فقيل إذا بنيتم الأمر على الأساس وكان المستمر ذلك ثم اتفق بادرة من غير قصد إلى المساءة فلطف الله تعالى يحجز دون عذابه قائمًا بالكلاءة، وكون الآية في البادرة تكون من الرجل إلى والديه مروى عن ابن جبير، وجوز أن تكون عامة لكل تائب ويندرج الجاني على أبويه التائب من جنايته اندراجًا أوليًا. اهـ.